المنادي في مصر يواصل مهامه الإخبارية مع ثورة الإتصال – مصدر24

المنادي في مصر يواصل مهامه الإخبارية مع ثورة الإتصال

القاهرة – تدفع الثورة المعلوماتية بعض الناس ويسارعون إلى إطلاق أحكام على وفاة عادات قديمة أو اندثار مهن بعينها، لمجرد أنها لم تعد موجودة بصيغتها المتعارف عليها، من بينها المناداة، كطقس شعبي يقوم بدور وكالة أنباء وإعلان في بعض المجتمعات القروية والشعبية وحتى الحضرية.

لكن استمرار المنادي وسط التطورات التكنولوجية عكس تشبث التراث الشعبي بالصراع من أجل البقاء، ويستمر ليصبح بصورة أو بأخرى جزءا من مكنون الفرد ثم المجتمع، وبعدها يصبح عصيا على الاندثار بحيل التأقلم.

في إحدى ضواحي حي السادس من أكتوبر، جنوب غرب القاهرة، نفذ صوت مناد إلى منزل محمد حسن صاحب الـ62 عاما، يتجول من خلال “توك توك” تعلوه سماعة أو أكثر لمكبرات صوت، يخبر الناس عن ضياع طفلة، ويدعو الأهالي للمشاركة في العثور عليها، ثم تلا عنوان ورقم هاتف الأسرة للمساعدة.

يألف حسن الذي شب في ضاحية شبرا الشعبية في ستينات القرن الماضي، صوت المنادي كوسيلة إعلام رئيسية، حين يتجول على ظهر دابة أو مترجلا وهو يمسك طبلة للتنبيه، يخبر عن حوادث الوفاة أو ميلاد الأطفال أو عقد قران شاب وفتاة.

الفيسبوك أسرع

الدابة وسيلة نقل لرجل الأخبار القديم
الدابة وسيلة نقل لرجل الأخبار القديم

صحيح أن مهنة المنادي عادة لم تندثر، لكن معاناتها تزداد مع كل تقدم تكنولوجي وحدوث تطورات جديدة في ثورة المعلومات. ويقول حسن “قديما كان هناك أشخاص بأعينهم يمتهنون النداء، وتلجأ إليهم جهات رسمية وشعبية حين تريد إذاعة خبر ما، أما اليوم فهناك صفحات عديدة للتواصل الاجتماعي تقوم بالمهمة”.

ولا يألف أبناء حسن عادة (مهنة) المناداة تلك برغم شغف والدهم بها كتراث قديم يجب تقديسه ودعمه من أجل البقاء، ويفضل أولاده التفاعل مع الثورة المعلوماتية بكل تحديثاتها، ما يعني أنها تعكس منسوب الصراع الثقافي والفكري داخل الأسرة الواحدة. قالت سهير، وهي ابنة حسن، لـ”العرب”، “عندما سمعت نبأ اختفاء الطفلة من المنادي في الشارع سارعت إلى كتابة الواقعة على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، ضمن مجموعة تضم الكثير من سكان ضاحية أكتوبر، ودونت ملامح الطفلة وعنوانها”، وفتحت الفتاة نافذة حوارية حية ومستمرة، يستطيع من خلالها أهالي المنطقة متابعة حادث الاختفاء والمشاركة في العثور عليها.

يعني الأمر أن المناداة كعادة تصارع من أجل البقاء، يصعب الاستغناء عنها بشكل كامل كأداة للمعرفة، وإن بات التطور التكنولوجي يقوم بهذا الدور بشكل أكبر، لأن العلاقة بين الاثنين (المناداة والتواصل التكنولوجي) يفترض أن تقوم على التكامل، وليس محاولة كلاهما إزاحة الآخر.

دليل ذلك، أن هناك حاجة ملحة إلى المنادي في القرى والنجوع الريفية والمناطق الشعبية التي تزيد فيها معدلات الأمية بين السكان، حتى أن الكثير من القاطنين فيها يفتقدون أبجديات استخدام الوسائل التكنولوجية والتواصل مع الآخرين عبر المنصات الاجتماعية.

الحضور القروي

مازال التوك توك يتجول في ضواحي القاهرة تعلوه سماعة أو أكثر لمكبرات صوت، يخبر الناس عن ضياع طفلة ويدعو الأهالي للمشاركة في العثور عليها
مازال التوك توك يتجول في ضواحي القاهرة تعلوه سماعة أو أكثر لمكبرات صوت، يخبر الناس عن ضياع طفلة ويدعو الأهالي للمشاركة في العثور عليها

تختلف وسيلة التواصل بين المنادي والسكان، حسب طبيعة المنطقة وعاداتها وتقاليدها، فمثلا في قرى مصر قد يتجول المنادي على دابة (حمار) أو يكون مستقلا “توك توك” أو دراجة بخارية أو عربة كارو (صندوق من الخشب فوق أربع عجلات يجرها حمار)، أما في المناطق الحضرية فقد يستخدم سيارة حديثة، والاستخدام الشائع يكون بعربة نصف نقل. ولدى المنادي مهام كبيرة في الريف والمناطق الشعبية، ويظل وسيلة الإعلام الأبرز في إبلاغ الأهالي بالمستجدات الاجتماعية، والقيام بدور البطولة المطلقة بالنسبة للراغبين في القيام بحملة دعائية أو سياسية، سواء لأشخاص أو مؤسسات، بينما الدور الأكبر يكون عند الإعلان عن موت أشخاص.

ولا تشترط مهنة المنادي سنا معينا لمن يقوم بالمهمة، وقد يستدعي الأمر أن يقوم مجموعة أطفال بهذا الدور، حيث رصدت “العرب” في إحدى قرى محافظة الدقهلية في شمال القاهرة تجول طفل وقت الظهيرة، مستقلا “عربة كارو” ويعلن عن بيع بعض أنواع الفاكهة، مثل البطيخ، ويتبادل مع الناس الحديث في الميكروفون كلما تعرض لبيع
بضاعته.

ويستدعي الظرف الطارئ أحيانا أن يعمل الطفل مناديا. فالصغار قد يتولون مهمة إعلام الناس باسم متوفى، من أقاربه، وقد يتفرغون للمهمة لأن كبار العائلة انشغلوا بإجراءات العزاء والدفن، وفي هذه الحالات، لا قيمة لمنصات التواصل الاجتماعي في القيام بدور المنادي، لأن الذين تم إعلامهم بحالة الوفاة من ممتهني الزراعة والحرف الصغيرة بالقرية، ولا علاقة لهم بالثورة التكنولوجية.

وتتسع مهمة المنادي في القرى لتشمل إعلام الناس بالأخبار التي يريد العمدة إبلاغها إلى الأهالي، مثل وصول الأسمدة الزراعية أو توافر لقاحات تطعيم الأطفال، وهناك مناد يدعو الناس بشكل جماعي للمشاركة في عقد قران أو حضور زفاف، وإن كان ذلك أقل انتشارا، وتستلزم الدعوة للأفراح تقاليد ودية أكثر، بأن يذهب أصحاب العُرس إلى الأهالي في منازلهم ودعوتهم بشكل شخصي.

تقول حميدة إمام التي تقيم بإحدى قرى محافظة المنوفية (شمال القاهرة) لـ”العرب”، “في قريتنا يقوم المنادي بالتجول في الشوارع للإبلاغ عن وصول محصل الكهرباء (موظف حكومي يجمع تكلفة فواتير الاستهلاك)، إذ لا يتنقل بين المنازل ويمر على كل وحدة سكنية بمفردها كما يحدث في المدن، بل يجلس في منزل العمدة، ويبعث الأخير بمناد يخبر الأهالي بوصول المحصل ليتوافدوا عليه لدفع ما عليهم من مستحقات مالية”.

صوت المدينة

المناداة في الشوارع والحارات المصرية نشرات إخبارية تقاوم الاندثار
المناداة في الشوارع والحارات المصرية نشرات إخبارية تقاوم الاندثار​​

في المدن والأحياء الحضرية وبعض المناطق الجديدة، يتشابه منادي “التوك توك” مع الريف، لكن المهام الاجتماعية تختلف كثيرا، وربما تكون متوافقة إلى حد كبير في تمركز مهمة المنادي على أخبار الوفاة، وكثيرا ما تحدث المناداة الحضرية داخل مكبرات الصوت الموجودة في المساجد.

ويستخدم الشبان الأعلى تعليما والأكثر اتصالا بالتكنولوجيا، حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي للإعلان عن وفاة قريب أو صديق، ثم يستقبلون سيلا من التعازي الإلكترونية، ويردون عليها لاحقا، ويصعب حدوث ذلك في القرى والمناطق الشعبية، بأن يكون العزاء إلكترونيا، بحكم العادات والتقاليد التي تفرض على كل الجيران والأقارب أداء واجب العزاء بالحضور، وتتجول مكبرات الصوت في كل ربوع القرى المجاورة وأحيانا ما توقظ النيام.

الأكثر حضورا في المدن والأحياء، عندما تتداخل أصوات نداء الباعة الجائلين الذين يرددون عبارات محفوظة مثل “يا بلح ولا تين ولا عنب زيك” (صيغة مفاضلة بين أنواع الفاكهة) أو “أحمر يا بطيخ”، ويتحول النداء أحيانا إلى معركة يحاول فيها كل بائع التغلب على الآخر بالعبارات الرنانة والصوت المرتفع، إذا ما تصادف مرور أكثر من بائع في المكان ذاته.

ويحمل النداء صيغة أخرى في الأسواق والمناطق التجارية، وبالقرب من محطات مترو الأنفاق حيث تعد مركزا لتجمع الباعة، ويُسجل البائع صوته مسبقا، ويعيد تشغيله على مدار اليوم عبر مكبرات الصوت، مدخرا مجهوده.

ورغم أن هدير رجب (24 عاما) تنتمي إلى جيل الفيسبوك، إلا أنها تألف صيغة النداء التقليدي كوسيلة إعلام حية وقالت لـ”العرب”، وهي من سكان حي العمرانية على أطراف القاهرة، “حين أرى المنادي في ضاحيتنا، أشعر بالألفة وأعتبره وسيلة أكثر حميمية وصدقا من بضع حروف صماء عبر موقع اجتماعي، وتلمس الحزن في صوت المنادي فتتعاطف أكثر، وتبذل الجهد في الدعاء للمتوفي ولم تكن تعرفه”.

وأضافت “النداء فعال أكثر، فلو اقتصر الأمر على منشورات فيسبوك أو اتصالات هاتفية، ربما يرى الشخص المنشور بعد فترة، وعندها يكون المتوفي قد دُفن، فيما يحتاج الأهل إلى مؤازرة خلال صلاة الجنازة والدفن، فتجمع الناس وقتها وإظهار مشاعر الحب والدعم، قد يخففان من وطأة الحدث، فالتقاليد القديمة كانت تحمل قدرا من الصدق في المشاعر أكثر مما هو غالب حاليا، لذلك كانت المجتمعات مترابطة ومتآلفة”.

مناد سياسي بأجر

النداء يحمل صيغة أخرى في الأسواق والمناطق التجارية
النداء يحمل صيغة أخرى في الأسواق والمناطق التجارية

يزدهر موسم النداء، ويصبح مهمة مدفوعة الأجر، قبيل الانتخابات البرلمانية أو المحلية، إذ تتم الاستعانة بشبان يخاطبون الناس عبر مكبرات الصوت، بأجر يومي يتراوح بين 300 إلى 500 جنيه (الدولار بـ17.56 جنيه) وتتمثل مهمتهم في الدعاية للمرشح أو دفع الجمهور إلى تبني وجهة نظر بعينها. ويلجأ الكثير من المرشحين في الانتخابات إلى المنادي كبديل عن المؤتمرات الجماهيرية التي يمكن أن تتكلف مبالغ مالية كبيرة، فضلا عن غياب الكثير من الأهالي عن المشاركة فيها، خاصة النساء والشباب، وبالتالي يكون المنادي البديل الأمثل والورقة الرابحة للمنافسين في أي مقعد برلماني أو محلي.

المهنة الموسمية للمنادي أثناء الانتخابات لها بعض الشروط، إذ تفضل الشخصيات المتمرسة في الحديث عبر الميكروفونات وتركيب العبارات الرنانة، ولا مانع من أن تتمتع بروح الفكاهة، إذ في الغالب يكون المستهدف من الصيغة الدعائية بالنداء، ناخبون أميون ممن لا يتفاعلون مع منشورات ورقية أو أخرى رقمية، ولا يستوعبون أحاديث المؤتمرات وغالبا يهجرونها، فهم جماهير سماعية يتم اجتذابها بعبارات ووعود رنانة، حتى إذا رآها البعض غير لائقة بعملية سياسية حرة.

صحيح أن انحسار دور المنادي في الواقع انعكس على انكماش مكانته في السينما، لكن بعض الأفلام تناولت دوره ترسيخا لعادة وتقليد وطقس يأبى الاندثار، سواء كان الغرض منه دعاية موسمية، أو وسيلة ترويجية، لذلك تم توظيف المنادي في أعمال سينمائية عكست أهميته التاريخية.

حتى أن فيلمي “الزوجة الثانية” و”عودة الابن الضال” اللذين أنتجا عام 1967، أظهرا المنادي في هيئة “الأراجوز” أو صاحب “صندوق الدنيا” الذي يحمل نوادر القرية وقصصها لأخذ العبرة، كما لم تخل المشاهد السينمائية الحالية من المنادي، لكنه دُس وسط الأحداث بشكل استثنائي، يعكس انحدار هذه العادة وتغير أهدافها، ربما لأنها تنشد التأقلم مع واقع مجتمعي لا تستهويه العادات والتقاليد.

'