الثورة الرقمية تنسف الطرق الكلاسيكية في عالم الجوسسة – مصدر24

الثورة الرقمية تنسف الطرق الكلاسيكية في عالم الجوسسة

الثورة الرقمية تنسف الطرق الكلاسيكية في عالم الجوسسة

الذكاء الاصطناعي يقلل من تأثير العنصر البشري في عمل الاستخبارات.

يعيش قطاع التجسس على وقع العديد من التغيرات التكنولوجية والسياسية والقانونية والاجتماعية، والتجارية في ظل الثورة الرقمية وعصر السماوات المفتوحة والعولمة، وهو ما يدفع بأجهزة الاستخبارات والجواسيس إلى تغيير قواعد اللعبة وتجديد طرق التجسس، وتغييرها بشكل يتماشى مع التقنيات الحديثة لكشف أساليب التجسس والعمل بطرق مغايرة تتميز بالذكاء والسلاسة لا بنظرية السرية التامة التي عاصرت طرق التجسس منذ القدم.

واشنطن – أمام الثورة الرقمية الحالية والأقمار الصناعية المنتشرة في كافة أصقاع العالم، تغيرت موازين القوى في عالم الجوسسة وأصبحت المجتمعات المغلقة الآن مميزة على نظرائها من المجتمعات المفتوحة، حيث لم تعد الدول الغربية قادرة على التجسس على مناطق مثل الصين وإيران وروسيا، التي ركزت على تحصين منظومتها المعلوماتية والأمنية، وقللت من عمليات الاختراق الغربية لمنظوماتها، لذلك صار عالم التجسس حربا باردة بين معسكرين كلاهما له من التطور التكنولوجي والأمني ما يكفي لتقليم أظافر الآخر، خاصة مع تبلور مقاييس قوة جديدة مثل مشاريع الرحلات الفضائية البشرية، والتخلي عن عمليات التجسس المعتمد على الإنسان، وتحول التجسس التقليدي إلى عالم مكلف وبعيد عن عصره.
وتدفع هذه التطورات بإدوارد لوكاس، الخبير الأمني والباحث في مجلة فروين بوليسي، إلى التنبؤ بموت الجوسسة بشكلها التقليدي، مشيرا إلى أن فكرة الجوسسة البشرية بدأت تلفظ أنفاسها وتقضم ما تبقى من أساليبها الكلاسيكية التي ميزت القرن الماضي في ظل صعود أسهم التجسس الإلكتروني عن بعد، والذي يتميز بالسرعة والنجاعة دون تعريض حياة شخص بعينه لخطر الموت في حال اكتشاف تجسسه. إذ تبدو القدرات التقنية هي مفتاح النجاح للجواسيس ومن يتميز على غيره تقنيا ومعلوماتيا، سيكون الرقم الأصعب في عالم الجوسسة الشاسع.

العملاء الخاصون

إدوارد لوكاس: على عكس الجوسسة البشرية التقليدية تعتبر القدرات التقنية مفتاح نجاح عمل المخابرات في المستقبل
بدأت الحدود الفاصلة بين الأنشطة الاستخباراتية في القطاع العام والقطاع الخاص تتلاشى وأصبحت أكثر غموضا مع تحول العملاء الخاصين إلى جزء أساسي من عالم التجسس الأوسع، حيث ينتقل عدد كبير من ضباط المخابرات إلى القطاع الخاص بمجرد مغادرتهم الحكومة، وهو ما يكشف عن تغير في معايير انتقاء الجواسيس.
سمح هذا التحول لبعض الجواسيس السابقين ببناء ثروة هائلة، ولكنه أدى إلى تلاشي لغز وسلامة ونزاهة الأنشطة التي تمارس لخدمة الدولة، مقابل تنامي مفهوم الانتهازية وكسب المال من خلال عمليات التجسس. ومن منطلق هذا التغير، بات عالم التجسس عرضة لعمليات غير قانونية ومحتكمة لمنطق الكسب غير المشروع والمال الفاسد، وهو ما جعل من التشريعات الجدية والقوانين المصاغة تحاصر أجهزة الاستخبارات وتفتح أبوابها المغلقة سابقا، حيث تعد أجهزة الاستخبارات في البلدان الديمقراطية التي تتمتع بالشرعية الموروثة من الماضي أو بالصورة السحرية التي صورتها هوليوود عن القطاع في الأفلام المبنية عليه.
ويعتبر إدوارد لوكاس التكنولوجيا أكبر قوة تخريبية أثرت على طريقة عمل القطاع، حيث تعتمد أساليب الجوسسة التقليدية دائما على الخداع القائم على أساس تغيير وتزييف الهوية، لتحقيق الاختراق عبر تجنيد العملاء وتطوير مهاراتهم وتنشيطهم وصيانتهم بالسرية التامة، ولكن إذا فشل الجاسوس في التخفي وكشف أمره وسقط القناع فإن المهمة بأكملها ستفشل. وعليه يجب أن تتميز استراتيجية العمل في عالم الجوسسة بالحنكة في رسم الخطط العملية المواكبة للتطورات التكنولوجية الحاصلة، مع الأخذ بعين الاعتبار كل السيناريوهات المحتملة، لتفادي عنصر المفاجئة والسيطرة على الحوادث الطارئة، وتفادي الضرر المتوقع بأقل نسبة ممكنة، ولضمان النجاح في تحقيق الأهداف الأمنية والسياسية.
تغيّر قواعد اللعبة أساليب التخفي وتزييف الهوية والتي أصبح من السهل الآن كشفها بواسطة التقنيات الحديثة، وهو ما جعل من أجهزة الاستخبارات أكثر تحديثا لخططها لإخفاء أسرارها، حيث يتيح برنامج التعرف على الوجه، الذي طورت شركات إسرائيلية معظمه قبل انتشاره على نطاق أوسع في الصين وأماكن أخرى، للحكومات ووكالات إنفاذ القانون تخزين أعداد هائلة من الوجوه والبحث فيها، ويمكنها بعد ذلك التحقق من هذه البيانات عبر مقارنتها بمجموعة من المعلومات الشخصية التي يحملها معظم الأشخاص طوعية واعتيادا على حساباتهم عبر الإنترنت.
ويعتبر الهاتف المحمول أهم عنصر في العاصفة التكنولوجية التي تجتاح وكالات الاستخبارات، إذ لا يقتصر دور هذا الجهاز على تسجيل مكالماتك الهاتفية ورسائلك المستلمة والمرسلة، بل يعمل أيضا كمنارة تساعد على تتبع تحركاتك. ويمكن أن يتعرض الهاتف المحمول للهجوم والاختراق بسهولة ليصبح بذلك أكبر جاسوس على صاحبه، حيث تمكن دقيقة واحدة من اختراق الخصم، من تشغيل الميكروفون بشكل دائم وترك الهاتف في حالة إرسال مستمر حتى عندما يعتقد مالكه أنه مغلق، ويمكن تثبيت بعض البرامج الضارة عن طريق إرسال رسالة نصية إلى هاتف الضحية والتي تخدم نفس النوايا.
وتمتلك وكالات الاستخبارات عدة طرق لمعالجة المشاكل التكنولوجية، حيث يتمثل الحل الأول في ضخ المال في اتجاه المشاكل على أمل حلها، وقضاء الوقت والجهد في إنشاء جملة من “الأساطير” الكاملة لضباط مخابراتهم.
تبدأ هذه التقنية بإنشاء أسماء ووثائق وعناوين مزيفة، وهي الممارسات التقليدية في عالم التجسس. لكن، وكالات الاستخبارات تعزز رواياتها عبر دعمها رقميا. اليوم، يمكن للجواسيس الاعتماد على حساب في موقع “لينكد إن” المستخدم كشبكة تواصل مهنية، أو بطاقات ائتمانية دون امتيازات، أو حساب فيسبوك غير فاعل. ومع بعثرة تفاصيل كافية لتكون الشخصية واقعية وغياب علامات تدفع إلى إجراء فحص جدي على الشخص، يمكن أن تتماسك الرواية الزائفة.
وتتمثل الاستراتيجية الثانية في استخدام ضباط مخابرات معينين حديثا، لا يكشف سجلهم سوى عن حياتهم المدنية القريبة. أما الخيار الثالث، فيكمن في التعامل مع الهويات على أنها ذات استخدام واحد، حيث يرسل ضباط المخابرات في مهمة واحدة لا يرسلون بعدها إلى أي مكان آخر. كما يقوم حل رابع على الاكتفاء بالتجسس في بيئات محايدة أو ودية. يمكّن هذا العملاء من التجسس على الروس أو الصينيين، ولكن من لندن أو باريس بدلا من موسكو أو بكين. ولا يمكن اعتبار هذه الأساليب مثالية. فإما أن تكون المخاطر والتكاليف مرتفعة وإما أن تكون الفوائد منخفضة، أو كلاهما.

قيود سياسية وقانونية

الهاتف المحمول يعتبر أهم عنصر في العاصفة التكنولوجية التي تجتاح وكالات الاستخباراتالهاتف المحمول يعتبر أهم عنصر في العاصفة التكنولوجية التي تجتاح وكالات الاستخبارات
مع سعي المسؤولين الكبار الغربيين في قطاع الجوسسة إلى مواجهة التحديات التي تطرحها التكنولوجيا الجديدة، فإنهم يواجهون قيودا سياسية وقانونية أكبر من خصومهم في ظل اكتشاف عمل الاستخبارات، الذي لم يعد مناطا بالسرية التامة مثل السابق خاصة مع تفاقم الصراعات السياسية والحسابات الانتخابية في بلدان عدة تؤدي إلى كشف بعض الأسرار الاستخباراتية لضرب خصم معين مثل الجدل الحاصل بشأن التدخل الروسي في انتخابات الرئاسة الأميركية عام 2016 وشبهات التجسس التي رافقت الانتخابات. وهنا، يقول لوكاس “لم نكن نكتشف معالمه في السابق”.
 ويشير إلى أن العديد من المجتمعات الغربية تناقش مسألة الرقابة الاستخباراتية، وهذا أمر سليم. وعلى الرغم من عيوبها، يوجد فرق قاطع بين طريقة عمل الوكالات الغربية الكبرى (تحت القيود القضائية والتشريعية والتنفيذية وغيرها من القيود) والوسائل والأساليب التي يتبعها نظراؤها في أماكن مثل روسيا أو الصين. حيث يتطلب الوصول إلى سجلات الهواتف المحمولة في الغرب أكثر من نقرة واحدة ويجب توفر مذكرة قضائية وضوء أخضر من السلط المعنية يسعى الضباط إلى الحصول عليها عبر الخوض في عملية بيروقراطية.
لكن، الأمر أسهل في موسكو وبكين، حيث يتطلب قانون الأمن القومي الصيني صراحة من كل فرد وكل مؤسسة، حتى لو لم تكن تديرها الدولة، مساعدة أجهزة الاستخبارات في ضرب صارخ للتشريعات والقوانين. وهنا يقول لوكاس إنه على المسؤولين في وكالات الاستخبارات أن يعوا حقيقة أن تجريد المشروعية اليوم قد يسبب مشاكل لهم غدا.
فعلى سبيل المثال كان التسليم الاستثنائي للإرهابيين المشتبه بهم موضع تدقيق تشريعي مكثف في الولايات المتحدة سنة 2012، فقد رفع عبدالحكيم بلحاج، وهو شخصية معارضة ومهاجر ليبي، دعوى قضائية ضد الحكومة البريطانية لاختطافه في تايلاند سنة 2004 وإرجاعه قسرا إلى ليبيا، أين تعرض هو وزوجته الحامل للتعذيب، وفي سنة 2018 دفعت السلطات البريطانية تعويضا للأسرة واعتذرت لها. لم تكن مثل هذه المخاوف القانونية مألوفة خلال الحرب الباردة لغياب إطار قانوني واضح يحكم أنشطة التجسس.
لكن الآن، نظرا للتشريعات التي تضبط حرية المعلومات في العديد من البلدان، يجب على ضباط المخابرات أن يستعدوا لاحتمال تحمل مسؤولية القرارات التي تبدو مبررة اليوم، بعد مرور 30 عاما عندما يتم رفع السرية عن الوثائق لدرسها ضمن المعايير المستقبلية، إذ يمكن أن يتعارض ما قد يبدو تافها اليوم مع المعايير الاجتماعية المقبولة غدا. وكان استخدام شهادات ميلاد الأطفال المتوفين الطريقة الشائعة عند إنشاء هوية مزيفة للعملاء.

تفرض قوانين الخصوصية وحقوق الإنسان قيودا على وكالات الاستخبارات مقابل سعيها للحصول على صلاحيات جديدة مثل توظيف شركات التكنولوجيا للمساعدة في اقتحام الأجهزة والاتصالات المشفرة

وكان فريدريك فورسيث أول من أعلن عنها علنا في فيلمه “يوم ابن آوى” الذي يصور شخصية إرهابية خيالية. بين سنتي 2011 و2013، عندما تبين أن الضباط البريطانيين السريين كانوا يستخدمون هذه التقنية للتسلل إلى الجماعات السياسية المتطرفة، ثار الجمهور غاضبا، مما دفع إلى تنظيم سلسلة من التحقيقات الحكومية رفيعة المستوى وتسويات قانونية باهظة الثمن.
تفرض قوانين الخصوصية وحقوق الإنسان قيودا متزايدة على أنشطة وكالات الاستخبارات خاصة مقابل سعيها إلى الحصول على صلاحيات جديدة، مثل توظيف شركات التكنولوجيا للمساعدة في اقتحام الأجهزة والاتصالات المشفرة.
وفي سنة 2016 قضى، حكم صادر عن محكمة العدل الأوروبية بجعل جميع عمليات جمع البيانات التي أجرتها مكاتب الاتصالات الحكومية البريطانية نيابة عن وكالة الأمن القومي الأميركية غير قانونية.
وتستخدم وكالات الاستخبارات في الولايات المتحدة وبريطانيا ودول غربية أخرى محامين وأخصائيين في الشؤون العامة لمراقبة قوانين حماية البيانات وغيرها. ويبدو أن الانفتاح حتمي إذا كانت التحولات قد طاولت أدوات الجاسوسية الدولية بما أدى إلى التوظيف واسع النطاق للتقنية المتقدمة، لكن ذلك لا يعني بالمطلق الاستغناء عن العنصر البشري، فالذي حدث هو تبديل موقع هذا العنصر ليستقبل المعلومات ويحللها ويوجهها إلى جهات الاختصاص ويختبر دقتها ومدى الحاجة إليها وينفتح على قطاعات حساسة لتسهيل عملية الجوسسة.
وترفع المنافسة من المعايير في مجال الجوسسة كما هو الحال في المجالات الأخرى، وتحتاج وكالات الاستخبارات إلى العمل مع الجهات الفاعلة الأخرى خارج عالمها، وذلك من أجل معرفة ما يجري للتأثير عليه. وبالتالي يجب على الجواسيس ورؤساء المخابرات أن يكونوا على دراية بوسائل الإعلام، وأن يواجهوا عمليات اختراق المعلومات وتصاعدها.

موازين القوى تغيرت في عالم الجوسسةموازين القوى تغيرت في عالم الجوسسة

في الماضي، أخبر المسؤولون الجواسيس أن أي اتصال بصحافي يعتبر جريمة، وأصبح هذا الخط الفاصل رقيقا ومليئا بالثغرات. اليوم، يجد ضباط المخابرات الكثير من المواضيع التي يمكن التحدث عنها مع الصحافيين. مع ذلك، لا تعتبر التسريبات أكبر عائق أمام التجسس الناجح اليوم، بل تكمن المشكلة في السرية المفرطة التي تحاط بالمعلومات في معظم البلدان ولفترة طويلة من الزمن. لكن، لا تحمي هذه السرية البلدان من خصومها. بل إن هذه الأساليب تحمي البيروقراطيين من التدقيق فقط. وتستخدم وكالات الاستخبارات الحاجة المفترضة لحماية مصادرها وأساليبها الحساسة لتبرير إخفائها زلات أو أنشطة تستحق التدقيق العام.
وتجعل هذه السرية المفرطة خدمات التجسس انطوائية ومكلسة بالإجراءات. ويقول لوكاس منتقدا “يساهم دافعو الضرائب في نهاية المطاف في دفع فواتير أكبر مقابل نتائج أقل إعجابا. في الوقت نفسه، يسرق أعداء الديمقراطيات الغربية، الذين لا تقيدهم هذه الإجراءات، الأسرار ويتدخلون في السياسة الأميركية والأوروبية”.
ويضيف أنه في السنوات المقبلة، قد يتحول الخطر الأكبر إلى مرونة أجهزة الاستخبارات في البلدان الديمقراطية ومشاركتها في مؤسسات وإجراءات المجتمع الحر.
سيكون الإغراء قويا خاصة في البلدان التي تواجه انفجارا لعمليات التأثير العدائي، مثل أستراليا (التي تواجه تهديدا صينيا) أو أوكرانيا (التي تواجه تهديدا روسيا). كما قد تتحول العقوبات الجنائية التي تقودها الاستخبارات والعقوبات التنظيمية (الاعتقالات، وتجميد الأصول، والترحيل، وحظر وسائل الإعلام، وما إلى ذلك…) إلى قاعدة.
ويخلص قائلا “لا يريد معظمنا العيش في بلد تقضي فيه القيادة كل وقتها في قراءة مذكرات الاستخبارات، أين تتمركز وكالات الاستخبارات والأمن في قلب الحياة العامة وصنع القرار السياسي مثلما يحدث في روسيا تحت حكم بوتين. تحتاج الديمقراطيات الغربية إلى أجهزة الاستخبارات للدفاع عن المجتمعات المنفتحة من ‘البوتينية’ دون أن تتحول إلى شبيهة بروسيا”.

'